القائمة الرئيسية

الصفحات

الهجرة النبوية الشريفة 





مقدمة 



نعيش هذه الأيام، مع بداية السنة الهجرية الجديدة ذكرى عظيمة غراء، ذكرى هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة. إنها الهجرة النبوية التي كان لها عظيم الأثر في تغيير العالم وتوجيه سيرورة التاريخ. وأظهرت أن إرادة الله الواحد القهار فوق مكائد المشركين والحاقدين مهما كانت قوتها وقوة أصحابها. حاول مشركو قريش أن يقضوا على دعوة الإسلام ونبيها بشتى الطرق والوسائل؛ من مساومة وحصار وتضييق واضطهاد وتعذيب، لكنها كلها فشلت في أن تزعزع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته عن ما هم عليه، بل زادتهم يقينا في دعوتهم وإصرارا على نصرة دينهم، فما كان أمام أعداء الإسلام إلا وسيلة أخيرة؛ هي القضاء على رمز الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، غير أن الله أرادها بداية لانتصار الإسلام، قال الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَويَقْتُلُوكَ أَويُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 1. هذه الهجرة التي بفضلها تبدل حال الدعوة ومعها ثلة المؤمنين الذين صبروا على الظلم والاضطهاد من ضعف إلى قوة، فكانت بحق الفيصل بين عهد الاستضعاف وعهد التمكين. 



ونحن اليوم وإن كانت تفصلنا عن حدث الهجرة قرون من الزمن، لكن معانيها وعبرها ما زالت حية وحاضرة ومتجددة، فقط المطلوب منا أن نعيد الارتباط بها، وما أحوجنا اليوم وواقع الأمة اليوم كما هو جلي لنا، إلى أن نسلك سلوك الهجرة الايماني الجهادي رغبة في إصلاح ما فسد وجبر ما انكسر. فهيا بنا نطوف في تفاصيل ووقائع وأحداث الهجرة نيتنا في ذلك أن نتتلمذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته الأطهار لعلنا نقطف بعض المعاني والدروس والعبر، فتحشد بإذن الله هِممنا وتوجه سلوكنا وتنير طريقنا . فما هي أهم معاني الهجرة؟ وكيف نهاجر إلى الله ورسوله في زماننا هذا؟ 



الهجرة إلى المدينة المنورة تعدّ الهجرة النّبويّة حدثاً مهماً في التّاريخ الإسلامي، وله مكانّة هامّة عند المسلمين، وسميّت بالهجرة لأنّ المسلمين تركوا بلدهم، وبيوتهم، وأموالهم، وخرجوا بأمر من الله، ونجاة بدينهم، وقد كان منهم من هاجروا إلى الحبشة في السابق؛ ليلجؤوا إلى حاكمها العادل من بطش قريش وسادتها. 



سبب الهجرة 



أمر الله تعالى الرّسول ومن معة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنّورة، بعد ما لاقوه من عذاب وظلم من كفّار قريش، فخرجوا من مكّة أفراداً، وجماعات. 



بعض معاني الهجرة 



1- الهجرة بذل وعطاء 



من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها من أحداث الهجرة هو أن انتصار الدعوة رهين بتقديم وبذل الغالي والنفيس؛ فهذا سيدنا علي رضي الله عنه ينام مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موقن أن ذلك يعني تعريض حياته للخطر. وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يهاجر مع رسول الله ويأخذ كل ماله معه لخدمة الدعوة ويترك أهله دون مال، همه الوحيد أن يكون في معية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحلة التاريخية. بل كل هؤلاء المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة تاركين وراءهم أهاليهم وأموالهم في سبيل الله، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يبقى آخر المهاجرين إلى المدينة رغم كل ما قد يتعرض له من أذى المشركين خصوصا أن صحابته قد هاجروا، وهذا الدرس المستفاد ما أحوج الأمة اليوم إليه في زمن الانبطاح والاستسلام وزمن الوهن، الذي أصبح فيه الكثيرون مطبعين مع أعداء الإسلام مستكينين للظلم والفساد، وتركوا الجهاد، ولا إرادة لهم على الإنفاق والبذل والتضحية، قمة إرادتهم أن يعيشوا حياة مهما كانت ذليلة مهينة، وهذا هو السبب الرئيسي في ما تعيشه الأمة حتى أصبحت قصعة مستباحة لكل أمم الأرض كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لهذا تزداد حاجتنا أفرادا وجماعات وعلماء إلى التخلق بهذه الخصلة النبوية التي بها يستقيم حال الأمة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله (ومتى كان لنا جيل ترخص عليه نفسه في سبيل الله، ويعطي ماله في سبيله سبحانه لا يحسب، متى كان لنا جماعة وطد أعضاؤها عزمهم على السفر إلى الله تعالى مهما كان ثمن الرحلة فما ظهور الإسلام على الدين كله يومئذ ببعيد) 5



2- الهجرة سلوك وجهاد جماعي 



من خلال استقراء وقائع حدث الهجرة النبوية نجد أن من أهم المعاني التي أراد أن يعلمنا إياها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي أن المهاجر لا بد له من صحبة مؤنسة ورفقة رحيمة توجه همته وترشد قصده وتذكر غفلته، وهذا ما تأكد حينما جاء سيدنا أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له رسول الله عليه وسلم: “على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي”، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت يا رسول الله؟ قال: “نعم” 6. فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر لصحبته، فكان أبو بكر نعم الصاحب لرسول الله، وفي هذا دعوة لكل مؤمن مهاجر إلى الله أن يبحث عن وارث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدلل له الصعاب ويقصر له المسافات ويشد بيده نحو الأمان. 



كما أن الهجرة جهاد جماعي يتطلب تضافر الجهود من جميع جند الله وكل أنصار الدعوة، فهاهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر يهاجران، وهذا علي ينام مكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا عبد الله بن أبي بكر يستمع إلى أعداء الدعوة وإلى خططهم ليبلغها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهذه أسماء بنت أبي بكر تزود الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالمؤن والطعام، وهذا درس أهم خلاصته: أنه لن يستقيم حال الأمة اليوم إلا إذا رشّدت الجهود في عمل منظم رشيد يسد فيه جند الله كل من موقعه أي ثغرة قد يؤتى الإسلام وأهله منها أو تكون سببا في نصر الدعوة المحمدية. 



3- الهجرة تخطيط ومنهاج 



كيف يتصور بناء أمة شاهدة بالقسط قائمة بالحق ما لم يقم أهلها بالتخطيط اللازم، ما لم يمتلك جند الله المنهاج الكفيل بذلك، وأي منهاج أقدر على ذلك من منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم. في الهجرة دروس بليغة للمؤمنين المُصلحين المُضطهَدين ، دروس في التخطيط والأخذ بالأسباب، فرغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي ومنصور من عند الله لم يجعله ذلك يترك الأسباب، فتجده يُعد خطة محكمة لمسار الهجرة، ويعد الوسائل الكفيلة لتمويه مشركي قريش وغير ذلك… لأن سنة الأخذ بالأسباب سنة الله التي لا تحابي أحدا وإن كانوا أنصار الحق. ولهذا على الأمة اليوم أن تترك الانتظار البليد وأن تعمل على استشراف موعود الله وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم بإعداد العدة والأسباب الكافية لاستنزال هذا الموعود موعود التمكين والنصر، وذلك عن طريق اقتحام أفرادها الميدان ليربوا وينشؤوا ويتدافعوا ويؤهلوا الأمة في مجموعها. 



كما أن التخطيط وحده لا يكفي ما لم يكن داخلا في كنف منهاج واضح، راسخ، شامل، يثبت العزيمة ويوضح الغاية ويتخذ الوسائل العملية، منهاج ينظر للغد القريب والبعيد رؤية يقين ووضوح. 



4- الهجرة استجلاب لمعية الله 



في غمرات التنافس على الدنيا تضيع البوصلة وتُخطئ الوجهة، تتثاقل النفس عن طلب الآخرة ويصبح هم الله آخر الهموم وأهونها، لكن الهجرة بمعناها المستمر عبر الزمن تسمح بإعادة توجيه الهم نحو الآخرة وتربية النفس على طلب العلا والتي لا يستقيم حالها إلا بطلب الله ومعيته. 



كيف تنال معية الله؟ سؤال يطرحه كل مهاجر يريد وجه الله، وجوابه جاءنا مقررا في مواضع مختلفة من كتاب الله، منها قوله الله تعالى لبني إسرائيل: وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً ، وقال تعالى مخاطبا أمة القرآن وبيانا لأسباب حصول معية الله عز وجل: إن الله مع الذين اتقوا وكانوا محسنين ، واصبروا إن الله مع الصابرين . 



إنها المعية الإلهية التي طمئنت موسى وأخاه هارون –عليهما السلام- بالنصر وبعدم الخوف من فرعون وكيده فقال له الله قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ، وهي المعية الربانية نفسها التي طمأنت وأيدت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وصاحبه رضي الله عنه في شدة الابتلاء؛ قال تعالى: فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها . 



نحن بأمس الحاجة أفرادا وجماعات إلى إدراك خلل ما يتميز به سلوكنا وجهادنا، بصحبة من كان الله معه، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . فالهجرة سلوك نحو الله وجهاد بصحبة أهل الله طلبا لمعية الله، قال الله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم 



لهذا وجب تجديد معنى المعية الإلهية في الجهاد وفي طلب وجه الله في ظل واقع طغت فيه الأنانية المستعلية وتركت فيه الوراثة النبوية. 



أحداث الهجرة النّبويّة الشّريفة 



تأخرّ الرسول عليه الصّلاة والسّلام عن الهجرة، حتّى أذن الله له بذلك، فخرج هو وصاحبه أبو بكر الصديق في الليلة التي اجتمعت قريش على نيّة قتله وهو نائم في فراشه، فجمعت عشرة رجال، كلٌّ منهم من قبيلة؛ حتّى يتفرق دمه بين القبائل، فحاصروا منزله في الليل، ولكنّ الله أخرج نبيه من بينهم بعد أن أغشى على أبصارهم، وقد كان النّبي قد أوصى لعلي بن أبي طالب أن يبيت في بيته؛ ليعيد الأمانات إلى أصحابها، فقد كان يعرف بالصّادق الأمين، وكان أهل مكّة يودعون أماناتهم عنده، فلما دخل الرجال عليه وجدوه عليّاً، فانطلقوا في الصّحراء لاقتفاء أثره. كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قد سلكا طريقاً غير مباشرة، كيّ لا يتمكّن المشركون من الإمساك بهم، ولكنّ قريش أعلنت جائزة ماليّة ضخمة لمن يظفر بالنبيّ وصاحبه، فاستطاع شخصٌ يدعى سراقة بن مالك اقتفاء أثرهما، وعندما أراد أن يشي بمكانهما انغرست أقدام فرسه في الرمل، فطلب من النبي أن يدعو الله أن يخلصه، ولما آمن وعده النبي صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى، ودخل الرسول وصاحبه إلى غار ثور، ووصل المشركون إليه ولو نظروا حينها لموضع أقدامهم لكانوا قد رأو الرسول وأبو بكر، ولكنّ الله حماهم، ثم مكثا فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك واصلا مسيرهم إلى المدينة، وقد كانت تسمّى يثرب آنذاك.
وصول النّبي إلى المدينة المنورة 



عندما طلّ النّبي وصاحبه على المدينة، أخذ المسملون ينشدون، ولما أمر ببناء مسجد، وهو أول مسجد في الإسلام، ويدعى مسجد قباء، وشارك عليه السلام في بنائه، كما أنّه آخى بين المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون خرجو بأنفسهم وبدينهم، وتركوا أموالهم، وبيتوهم، وليس لهم الآن حيلة، فقم كل أنصاري باقتسام ماله، وأملاكه بينه وبين أخوه من المهاجرين، فكانت هذه الهجرة بداية حقيقيّة لانتشار الدين الإسلامي، وتقويته، ويرجع لها التأريخ الهجري، أو ما يسمّى بالأشهر القمريّة. 




تعليقات